أطلقت 27 منظمة حقوقية مبادرة "الحل الوسط"، واعتبروها بمثابة الطريق
الثالث لتلافى السقوط فى براثن أحد خيارين، الأول الفاشية الدينية، والثانى
مكانة القوات المسلحة فى الدستور، وتنص المبادرة على عرض مسودة الدستور
الذى ستتوصل إليه الهيئة التأسيسية، على هيئة مكونة من رؤساء المحاكم
العليا برئاسة رئيس المجلس الأعلى للقضاء، للنظر فى مدى اتساق المسودة مع
المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وفقا للاتفاقيات التى صدقت عليها مصر،
فإذا توصلت إلى وجود تباينات محدودة أعادت المسودة للهيئة التأسيسية لتلافى
هذه التباينات، وإذا رفضت الهيئة التأسيسية تعديل المسودة، أو كانت
التناقضات كبيرة بين المسودة والمعايير الدولية، يقوم المجلس الأعلى للقوات
المسلحة بناء على توصية من رؤساء المحاكم العليا بحل الهيئة التأسيسية
ودعوة مجلسى الشعب والشورى لاختيار هيئة تأسيسية جديدة".
وكان مركز
القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، برئاسة بهى الدين حسن الخبير الحقوقى، طالب
حكومة عصام شرف بسحب الصياغة المطروحة لوثيقة "إعلان المبادئ الأساسية
لدستور الدولة المصرية الحديثة".
وأصدر المركز بيانا قال فيه،
التوجهات الحاكمة فى الوثيقة أطلقت مخاوف مفهومة ومشروعة من قبل قطاعات
واسعة من المصريين، من ترسيخ الدولة الدينية الفاشية فى الدستور الجديد.
إلا
أن المركز يعتبر أن إقرار مثل هذه الوثيقة بصياغتها الراهنة، رغمًا عن
تحفظات عدد كبير من القوى السياسية ومن منظمات المجتمع المدنى عليها، يشكل
نوعًا من عقود الإذعان التى تزدرى بشكل صارخ حق المصريين فى وضع القواعد
والمرتكزات التى يرتضونها ويتوافقون عليها، سواء لصياغة دستور جديد للبلاد،
أو لاختيار أعضاء الهيئة التأسيسية التى سيناط بها مهمة صياغة الدستور.
وأضاف
البيان، كان من المنطقى فى ظل الإدارة الفاشلة من قبل المجلس العسكرى
للفترة الانتقالية، وما اقترن بها من إعطاء الأولوية لانتخاب مؤسسات الحكم
قبل صياغة الدستور الذى يحدد صلاحيات هذه المؤسسات، أن يبادر عدد من الرموز
السياسية، و منظمات حقوق الإنسان ببلورة قواعد يمكن التوافق عليها عبر
الحوار بين مختلف القوى والتيارات السياسية والقائمين على إدارة شئون
البلاد، ويمكن أن تشكل بوصلة توجه عمل الهيئة التأسيسية فى صياغة الدستور
الجديد، وفى تحديد المبادئ الأساسية الحاكمة فى نصوص الدستور، والتى لا
يجوز لأى من التيارات السياسية المتنافسة أن تنقلب على تلك المبادئ،
استنادا إلى أنها تمثل الأغلبية فى لحظة ما.
وأوضح البيان، أنه من
المؤسف أن الوثيقة المقترحة من حكومة شرف التفت على تلك المبادرات،
واستثمرت إلى أقصى مدى الخوف من الإسلاميين، والخشية من تكرار نماذج
استبداد الدولة الدينية فى دول مجاورة، لكى تمنح المؤسسة العسكرية ومجلسها
الأعلى امتيازات استثنائية تجعلها فوق السلطات الدستورية، وفوق أى قانون،
وتمنحها تفويضًا بحماية الدولة المدنية والشرعية الدستورية، وضمنيًا
الحريات العامة وحقوق الإنسان، رغم أن تجربة 8 شهور مع المجلس العسكرى
تبرهن بشكل قاطع على أنه غير مؤهل لهذا الدور، ولا يؤتمن على حماية الحريات
وحقوق الإنسان، فوفقًا للمادة التاسعة من الوثيقة لم تعد مهمة القوات
المسلحة فقط حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، بل صارت أيضًا لاعبًا
رئيسيًا فى الحياة السياسية والتدخل فيها، تحت مسمى "حماية الشرعية
الدستورية"، كما أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد اختص فى هذه الوثيقة
بامتيازات وحصانات سياسية واسعة تجعله فى مرتبة أسمى من كافة مؤسسات الحكم،
فهو ينفرد دون غيره بالنظر فى كل ما يتعلق بشئون القوات المسلحة
وميزانيتها، والمختص دون غيره بالموافقة على أى تشريع يتعلق بالقوات
المسلحة قبل إصداره، والواقع أن اليد الطولى للمؤسسة العسكرية التى يُراد
إطلاقها فى الدستور الجديد، تظهر بوضوح أيضًا فيما ابتدعته الوثيقة من
قواعد، سواء فى تشكيل الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور أو لإقراره بصورة
نهائية، فالهيئة التأسيسية، التى يمنى الإسلاميون أنفسهم بالهيمنة على
اختيار أعضائها إذا ما فازوا بالأغلبية فى الانتخابات البرلمانية، بات
اختيار القسم الأعظم من أعضائها يخضع فعليًا لمشيئة من يديرون شئون البلاد،
حيث تطلق الوثيقة يد هيئات رسمية أو أشكال ديكورية، كانت وما تزال تحت
سيطرة كوادر نظام مبارك، ولا تتمتع بالاستقلالية عن المجلس العسكرى
وحكومته، فى اختيار ممثلين لها داخل الهيئة التأسيسية، ويندرج فى هذا
الإطار المجلس الأعلى للجامعات واتحادات العمال والفلاحين والاتحاد العام
للجمعيات الأهلية، واتحاد الصناعات والغرف التجارية، والاتحادات الرياضية،
فضلاً عن عشرة من الشخصيات العامة يرشحهم مجلس الوزراء، كما تمنح الوثيقة
المجلس الأعلى للقوات المسلحة حق الفيتو للاعتراض على ما ستنتهى إليه
الهيئة التأسيسية من نصوص للدستور الجديد، إذا ما ارتأى المجلس أن مشروع
الدستور الجديد به نصوص تتعارض مع ما وصفته الوثيقة بالمقومات الأساسية
للدولة والحقوق والحريات العامة.
وتابع البيان، خطورة هذه الوثيقة
فيما تنص عليه من الاحتكام إلى المحكمة الدستورية العليا فى حالة الخلاف
بين الهيئة التأسيسية والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وخاصة إذا ما أُخذ فى
الاعتبار أن المحكمة الدستورية هى الأكثر افتقارًا إلى ضمانات استقلال
القضاء من بين المحاكم العليا المصرية، لأن رئيس المحكمة الدستورية معين من
قبل رئيس الجمهورية، كما تمنح الوثيقة المجلس العسكرى سلطة تشكيل جمعية
تأسيسية جديدة، دون الرجوع لمجلسى الشعب الشورى أو هيئة الناخبين، إذا لم
تنته الجمعية التأسيسية من إعداد مشروع الدستور فى غضون المهلة الزمنية
المحددة بستة أشهر بعد إعلان تشكيلها.
وأكد البيان، أن مركز القاهرة
فى ضوء هذه الاعتبارات يؤكد رفضه المطلق لتلك الوثيقة، ويدعو الجماعات
الليبرالية واليسارية والعلمانية أيضًا إلى اتخاذ موقف أخلاقى ينحاز إلى
قيم حقوق الإنسان والمعايير الديمقراطية، ويرفض مبادلة درء خطر فاشية دينية
محتملة بمباركة الهيمنة العسكرية على وضع دستور البلاد.
ويتطلع
المركز لأن تنأى هذه التيارات بنفسها عن الانزلاق لذات المواقف الانتهازية
التى انزلقت إليها أغلبية التيارات الإسلامية، التى تبارت فى نفاق المجلس
العسكرى، والصمت على جرائم حقوق الإنسان المرتكبة تحت مظلته، طالما لم تطل
أعضائها أو أنصارها، انطلاقًا من حسابات ومصالح انتهازية، ولديها الاستعداد
للتخلى عن كل مبدأ أو قيمة، خاصة مع توقع هذه التيارات أن السلطة توشك أن
تصير لها.
كما يدعو المركز المجلس الأعلى للقوات المسلحة، إدراك أن
مكانة القوات المسلحة فى الدستور وفى الضمير الجمعى للمصريين لا تحددها
عقود الإذعان أو حسابات موازين القوى، وإنما يتعين أن تُبنى هذه المكانة من
خلال الحوار والتوافق المجتمعى بين كافة أطياف المجتمع المصرى فى إطار من
الالتزام بالمعايير الدولية للنظم الديمقراطية، وأن تتعزز هذه المكانة فقط
عبر احترام إرادة الشعب المصرى وصيانة كرامته الإنسانية والانحياز الصارم
للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، التى عبرت عنها ثورة 25 يناير، التى
استمد منها المجلس العسكرى المشروعية فى إدارته لشئون البلاد.