ها هو شهر رمضان قد اصفرّت شمسه، وآذنت بالغروب فلم يبق إلا ثلثه
الأخير، فماذا عساك قدمت فيما مضى منه؟ وهل أحسنت فيه أو أسأت؟ فيا أيها
المحسن المجاهد فيه هل تحس الآن بتعب ما بذلته من الطاعة؟ ويا أيها المفرّط
الكسول المنغمس في الشهوات هل تجد راحة الكسل والإضاعة؟ وهل بقي لك طعم
الشهوة إلى هذه الساعة؟
تفنى اللذاذات ممن نال صفـوتها *** من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سـوء في مغبتـها *** لا خير في لذة من بعدها النار
فلنستدرك
ما مضى بما بقي، وما تبقى من ليالٍ أفضل مما مضى، ولهذا كان رسول الله :
"إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله"[1]. وفي رواية مسلم:
"كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره". وهذا يدلُّ على أهمية
وفضل هذه العشر من وجوه:
أحدها: إنه كان إذا دخلت العشر شد المئزر، وقيل إنه كناية عن الجد والتشمير في العبادة، وقيل: كناية عن ترك النساء والاشتغال بهن.
وثانيها: أنه يحيي فيها الليل بالذكر والصلاة وقراءة القرآن وسائر القربات.
وثالثها: أنه يوقظ أهله فيها للصلاة والذكر؛ حرصًا على اغتنام هذه الأوقات الفاضلة.
ورابعها: أنه كان يجتهد فيها بالعبادة والطاعة أكثر مما يجتهد فيما سواها من ليالي الشهر.
وعليه، فاغتنم بقية شهرك فيما يقرِّبك إلى ربك، وبالتزوُّد لآخرتك من خلال قيامك بما يلي:
1-
الحرص على إحياء هذه الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والقراءة وسائر
القربات والطاعات، وإيقاظ الأهل ليقوموا بذلك كما كان يفعل. قال الثوري:
"أحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه، ويُنهض أهله
وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك". وليحرص على أن يصلي القيام مع الإمام
حتى ينصرف ليحصل له قيام ليلة، يقول النبي : "إنه من صلى مع الإمام حتى
ينصرف كتب له قيام ليلة"[2].
2- اجتهد في تحري ليلة القدر في
هذه العشر، فقد قال الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ} [القدر: 3]. ومقدارها بالسنين ثلاث وثمانون سنة وأربعة أشهر. قال
النخعي: "العمل فيها خير من العمل في ألف شهر". وقال : "من قام ليلة القدر
إيمانًا واحتسابًا غفر ما تقدم من ذنبه"[3]. وقوله : "إيمانًا"، أي إيمانًا
بالله وتصديقًا بما رتب على قيامها من الثواب. و"احتسابًا" للأجر والثواب.
وهذه
الليلة في العشر الأواخر كما قال النبي : "تحروا ليلة القدر في العشر
الأواخر من رمضان"[4]. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع؛ لقول النبي :
"تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان"[5]. وهي في السبع
الأواخر أقرب؛ لقوله : "التمسوها في العشر الأواخر, فإن ضعف أحدكم أو عجز
فلا يغلبن على السبع البواقي"[6]. وأقرب السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين؛
لحديث أبيّ بن كعب t أنه قال: "والله إني لأعلم أي ليلة هي الليلة التي
أمرنا رسول الله بقيامها، هي ليلة سبع وعشرين"[7].
وهذه الليلة لا
تختصُّ بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل في الليالي تبعًا لمشيئة الله
وحكمته. قال ابن حجر عقب حكايته الأقوال في ليلة القدر: "وأرجحها كلها
أنها في وتر من العشر الأواخر وأنها تنتقل". قال العلماء: "الحكمة في إخفاء
ليلة القدر ليحصل الاجتهاد في التماسها, بخلاف ما لو عينت لها ليلة لاقتصر
عليها".
وعليه فاجتهد في قيام هذه العشر جميعًا، وكثرة الأعمال الصالحة فيها، وستظفر بها يقينًا بإذن الله .
والأجر المرتب على قيامها حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم؛ لأن النبي لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.
3-
احرص على الاعتكاف في هذه العشر. والاعتكاف: لزوم المسجد للتفرغ لطاعة
الله تعالى. وهو من الأمور المشروعة. وقد فعله النبي وفعله أزواجه من بعده؛
ففي الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان النبي يعتكف العشر
الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده". ولما ترك
الاعتكاف مرة في رمضان اعتكف في العشر الأول من شوال, كما في حديث عائشة
رضي الله عنها في الصحيحين.
قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعلم عن
أحد من العلماء خلافًا أن الاعتكاف مسنون، والأفضل اعتكاف العشر جميعًا كما
كان النبي يفعل، لكن لو اعتكف يومًا أو أقل أو أكثر جاز. قال في الإنصاف:
أقله إذا كان تطوعًا أو نذرًا مطلقًا ما يسمى به معتكفًا لابثًا. وقال
سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله: وليس لوقته حد محدود في أصح أقوال أهل
العلم.
وينبغي للمعتكف أن يشتغل بالذكر والاستغفار والقراءة والصلاة
والعبادة, وأن يحاسب نفسه, وينظر فيما قدم لآخرته, وأن يجتنب ما لا يعنيه
من حديث الدنيا, ويقلل من الخلطة بالخلق. قال ابن رجب: "ذهب الإمام أحمد
إلى أن المعتكف لا يستحب له مخالطة الناس, حتى ولا لتعليم علم وإقراء قرآن,
بل الأفضل له الانفراد بنفسه والتحلي بمناجاة ربه وذكره ودعائه, وهذا
الاعتكاف هو الخلوة الشرعية".
ختام الشهر
ها هو شهر رمضان قد
قوِّصت خيامه، وغابت نجومه. وها أنت في ليلة العيد، فالمقبول منا هو
السعيد. وإن الله قد شرع في ختام الشهر عبادات تقوِّي الإيمان، وتزيد
الحسنات. ومنها:
1- التكبير: من غروب الشمس ليلة العيد إلى صلاة
العيد، قال تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. ومن الصفات
الواردة فيه: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر
ولله الحمد.
2- زكاة الفطر: وهي صاع من طعام ويبلغ قدره
بالوزن: كيلوين وأربعين جرامًا من البر الجيد. فإذا أراد أن يعرف الصاع
النبوي فليزن كيلوين وأربعين جرامًا من البر ويضعها في إناء بقدرها بحيث
تملؤه ثم يكيل به. والأفضل أن يخرجها صباح العيد قبل الصلاة؛ لحديث ابن عمر
رضي الله عنهما: "أن النبي أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى
الصلاة"[8]. ويجوز إخراجها قبل العيد بيوم أو يومين.
3- صلاة
العيد: وقد أمر بها أمته رجالاً ونساء مما يدل على تأكدها. واختار شيخ
الإسلام ابن تيمية أنها واجبة على جميع المسلمين، وأنها فرض عين. وهو مذهب
أبي حنيفة ورواية عن أحمد واختاره ابن القيم أيضًا.
ومما يدل
على أهمية صلاة العيد ما جاء في حديث أم عطية -رضي الله عنها- قالت: أمرنا
رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحُيَّض وذوات الخدور,
فأما الحُيَّض فيعتزلن المصلى, ويشهدن الخير ودعوة المسلمين. قلت: يا رسول
الله، إحدانا لا يكون لها جلباب. فقال : "لتلبسها أختها من جلبابها"[9].
والسُّنَّة:
أن يأكل قبل الخروج إليها تمرات وترًا ثلاثًا أو خمسًا أو أكثر, يقطعهن
على وتر؛ لحديث أنس t قال: "كان النبي لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات
ويأكلهن وترًا"[10].
ويسن للرجل أن يتجمل ويلبس أحسن الثياب،
كما في حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في
السوق، فأخذها فأتى بها رسول الله فقال: يا رسول الله, ابتعْ هذه تجمَّلْ
بها للعيد والوفود. فقال له رسول الله : "إنما هذه لباس من لا خلاق له".
وإنما قال ذلك لكونها حريرًا. وهذا الحديث رواه البخاري، وبوب عليه: باب في
العيدين والتجمل فيهما. وقال ابن حجر: وروى ابن أبي الدنيا والبيهقي
بإسناد صحيح إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يلبس أحسن ثيابه في
العيدين.
وأما المرأة فإنها تخرج إلى العيد متبذّلة, غير متجملة
ولا متطيبة, ولا متبرجة؛ لأنها مأمورة بالستر, والبعد عن الطيب والزينة
عند خروجها.
ويسن أن يخرج إلى مصلى العيد ماشيًا لا راكبًا إلا
من عذر كعجز وبُعد مسافة؛ لقول علي t: "من السنة أن يخرج إلى العيد
ماشيًا"[11]. والعمل على هذا الحديث عند أكثر أهل العلم, يستحبون أن يخرج
الرجل إلى العيد ماشيًا, وأن لا يركب إلا من عذر.
وينبغي مخالفة
الطريق بأن يرجع من طريق غير الذي ذهب منه؛ فعن جابر t قال: "كان النبي
إذا كان يوم عيد خالف الطريق"[12]. وفي رواية الإسماعيلي: كان إذا خرج إلى
العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه. قال ابن رجب: وقد استحب كثير من أهل
العلم للإمام وغيره إذا ذهبوا في طريق إلى العيد أن يرجعوا في غيره، وهو
قول مالك والثوري والشافعي وأحمد.
ويستحب التهنئة والدعاء يوم
العيد؛ فعن محمد بن زياد قال: كنت مع أبي أمامة الباهلي وغيره من أصحاب
النبي ، فكانوا إذا رجعوا من العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.
قال أحمد: إسناده جيد. وقال ابن رجب: وقد روي عن جماعة من الصحابة التابعين
أنهم كانوا يتلاقون يوم العيد، ويدعو بعضهم لبعضٍ بالقبول[13].[i]