تطرق العدد الجديد، الصادر أخيرا، من مجلة "الإحياء" المغربية إلى سؤال الأخلاق ونظام القيم، حيث تناول دراسات ومحاضرات لمفكرين وباحثين عرب ومغاربة، حاولوا بلورة الأهمية الكبيرة لسؤال الأخلاق في صلته الوظيفية القوية مع منظومة القيم الموجهة للسلوك الاجتماعي بأبعاده الفردية والجماعية والدولية المختلفة..
وخصصت المجلة ملفها في العدد المزدوج الحالي 34 و 35، مثل سابقه أيضا، لمحور الأخلاق والقيم، فاتحة المجال لآراء مفكرين من خلفيات علمية وفلسفية وسياسية متنوعة، من أجل تعزيز التعدد وتكامل المقتربات العلمية والمنهجية، التي تتخذ من القيم والأخلاق موضوعا للدرس والفهم.
وجدير بالذكر أن مجلة "الإحياء" هي مجلة فصلية محكمة؛ يترأس تحريرها الباحث المغربي عبد السلام طويل، وتصدر المجلة عن الرابطة المحمدية للعلماء، وهي مؤسسة علمية رسمية تابعة لوزارة الأوقاف، ويشغل الدكتور أحمد عبادي منصب أمينها العام.
السند الديني
وتحدث الدكتور أحمد عبادي، في تقديم مجلة "الإحياء"، عن السند الديني للأخلاق والقيم، مبرزا خمسة مقتضيات تعد صيغا للإسناد، أولها ضبط الإطار النظري واستكمال التحديد المفاهيمي والمجالي للأخلاق والقيم، في أفق الاستبانة النقدية البناءة لمعالم منظومات القيم السائدة في عالمنا.
وثاني هذه المقتضيات، وفق عبادي، هو الوقوف على مختلف المقاربات المنهجية المعتمدة في التعاطي مع المنظومات الأخلاقية والقيمية في عالمنا، أما ثالثها فيتمثل في ضبط أضرُب الصلة بين الأخلاق والقيم، وما هو سائد في محاضنها من معتقدات ورؤى وتمثلات للعالم، وللحياة والأحياء، وتحديد أوجه التأثر والتأثير بين الأخلاق والقيم، وبين المعتقدات والرؤى والتمثلات.
ورابع المقتضيات هو رصد أوجه التلازم الوظيفي بين الأخلاق والقيم، وبين مختلف تمظهرات التربية والتعليم والإعلام، وفي أفق استبانة المضامين الأخلاقية والقيمية السارية في النظم التعليمية والإعلامية، وتقويمها من هذا الصوب.
وخامس المقتضيات، بحسب عبادي، يتجلى في الرصد الميداني لتأثير المنظومات الأخلاقية والقيمية على مناهج بناء الذات ونحت الشخصية الإنسانية في بعديها الفردي والاجتماعي، وكذا رصد دور هذه المنظومات في توجيه أصناف الكسب الإنساني في مختلف المجالات.
وخلص عبادي إلى أن هذه المقتضيات، لا بد منها حتى لا يبقى التوق إلى رتق ما فتق من علاقة بين السند الديني للأخلاق والقيم، وبين مناهج التأصيل والتنظير والتفعيل في هذا المجال، مجرد أمان نعيش به في انفكاك عن متطلبات التنزيل الإجرائي الراشد على أرض الواقع لهذا البعد المحوري من أبعاد الحياة الإنسانية.
واعتبر الباحث أن السند الديني للأخلاق والقيم في صيغته الإسلامية أثبت أنه قادر على تجاوز القطيعة بين المرجعيتين الدينية والعقلية، وأنه لا تعارض بين مصالح العباد وتشريع رب العباد؛ فحيثما المصلحة المنضبطة بضوابطها ثمة شرع الله، وذلك من خلال ما يكنه الوحي الخاتم من إمكانات هائلة للتوفيق بين حاجات الحرية الشخصية وحاجات بناء السلطة، وبين ما يهدي إليه من انسجام جمالي بين الأخلاق الفردية الخاصة، والأخلاق الجماعية المشتركة.
نظام القيم
وفي دراسته الموسومة بعنوان: "نظام القيم في القرآن"، حدد المفكر اللبناني رضوان السيد، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية، محذورين يظهران عند دراسة القيم والأخلاقيات القرآنية، الأول يتمثل في الأخلاق الحسابية، التي تُخضع عالم القيم في الثقافات والحضارات للعواقب والتداعيات.
أما المحذور الثاني، فهو اعتبار العالَم الأخلاقي عالَما لصراعات بين منظومات متكاملة ومُغلقة ومتنابذة، ولابد أن تفوز إحداها، وتسيطر في المجال الحضاري كله، وعبر عصور متطاولة.
وأوضح السيد أن المصطلحات المفتاحية للمنظومة القيمية في القرآن تتركز في ستة مفاهيم، وهي المساواة، والكرامة، والرحمة، والعدالة، والتعارف، والخير العام. أما بالنسبة للمساواة فهي الخلق الواحد المتساوي، وأيضا التماثل في المبادئ والمصائر، والتماثل في القيمة الإنسانية بين النساء والرجال، والتماثل في التفضيل على الكائنات الأخرى.
والكرامة، بحسب المفكر اللبناني، تتميز بثلاثة جوانب: التمييز على الكائنات الأخرى بالعقل، واستخلاف ذوي العقول على إعمار العالم، وتسخير إمكانيات هذا العالم ومخلوقاته لهم؛ فالكرامة تتضمن شبكة من العناصر تستند في الأصل، مثل المساواة، إلى معطى إلهي، لكنها لكي يتسدد عملها تستلزم قيما مشتقة أو مترتبة على المعطى الرئيس.
وبالنسبة للرحمة، فالقرآن يعتبرها تارة حالة طبيعية أو مُعطاة، ويعتبرها تارة أخرى قيمة يكون على البشر في رؤيتهم وسلوكهم أن يسعوا لبلوغها. وأما العدل فيتميز بوصفه قيمة في القرآن بكونه في الأعم الأغلب يجري في النظرة السوية إلى الأشياء، وفي التعامل بين البشر.
والمعروف، يضيف رضوان السيد، يعني التعارف من رؤية مستقيمة وأخلاق فاضلة تتماهى دائما مع مفهوم أو مفاهيم متواترة اجتماعيا للخير العام، أما قيمة الخير فهي الأكثر ذكرا في القرآن بعد قيمة الرحمة، وترد في سياقات مختلفة، باعتبارها فعلا لله تعالى، أو عملا للمؤمن على المستوى الأخلاقي النظري، أو على المستوى القولي، أو على مستوى التصرف المادي.
وبعد أن استعرض منظومة القيم في القرآن، قدم السيد قراءة شواهد وتحققات رؤية العالم هذه في التجربة الدينية والثقافية الإسلامية في المراحل الكلاسيكية، وما استقرت عليه تلك التجربة الزاخرة بالنسبة لهذه المفاهيم، مختارا فئتين من فئات النخبة العاملة، وهما: المتكلمون والفقهاء، خلال قرون التوهج والازدهار بين القرنين 2 و5 للهجرة.
الأخلاق عند طه عبد الرحمن
وخصص الدكتور محمد همام، الباحث في الفكر الإسلامي، دراسته لملامسة ملامح العقلانية الأخلاقية لدى الفيلسوف المغربي المعروف طه عبد الرحمن، الذي اشتهر بمشروعه الفلسفي الذي تشكل فيه الأخلاق مرجعية ضابطة ومحددة، حتى أضحى الإمساك بخيوط النظرية الأخلاقية في مشروع طه عملا ضروريا لفهم مباحثه الفلسفية والمنهجية الخاصة بقضايا المعرفة والعلوم.
ويرى همام أن تداخلات الأخلاق والحس والعقل لدى فيلسوف الأخلاق ـ كما يلقب ـ دفعته إلى الاستنتاج بأن الأخلاق هي الميزة الإنسانية الأولى، وأن قوة الخُلق وليست قوة العقل هي التي تميز الإنسان عن الحيوان، بل إن وجود الإنسان ليس متقدما على وجود الأخلاق، وإنما مصاحب لوجودها.
ويستدعي هذا، في نظر طه عبد الرحمن، إنشاء نظرية أخلاقية يكون من أصولها مبدأ الجمع بين شروط الأخلاقية وشروط الإنسانية، فتتحقق عالمية الإنسان بالأخلاق، وتجنبه هذه الخاصية كذلك خطر استرقاق العلم المادي للإنسان، أو ما يسميه طه بـ"الاسترقاقية".
وبحسب همام، فإن الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن انتهى إلى أن العقل المقصود في أبحاثه ومشروعه العلمي ليس هو العقل المادي المجرد الذي صاغه الفكر اليوناني، وإنما هو العقل الحي الذي أمده الشرع الإلهي عن طريق مواعظه بالتسديد في المقاصد، وعن طريق حكمه بالتأييد في المسائل.
واستطرد همام: إذا كانت القيمة الدينية هي أفضل درجة وأكثر فائدة، في نظر طه، فإن الأخلاق هي جوهر هذه القيمة، وهي التي تورثنا معرفة القيم والمعاني من خلال يقينيتها، وبذلك ربط طه بين الفلسفة والفقه لترسخ البعد العملي والأخلاقي فيها، وتحقيق التداخل المثمر بين طريق النظر الفلسفي وطريق الخبر الفقهي.
وخلص الباحث إلى أن الأخلاق في نظر طه موجودة في كل معرفة، ولو كانت أشد تجريدا وتنظيرا، ومشروعه ـ في جزء كبير منه ـ يقوم على كشف مكامنها في المعارف، واستخراج الأخلاق الموجودة في التراث الإسلامي لتأسيس نموذج معرفي أخلاقي ذي كفاية تقويمية وتفسيرية عالية وفعالة.
الأخلاق بين العقل والدين
وبالنسبة لعبد العزيز بومسهولي، أستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بمراكش، فإن ثالوث "الأخلاق، العقل، الدين" يطرح إشكالية جوهرية لا تتمثل في العلاقة التي تجمع وتؤلف ما بين عناصر هذا الثالوث فحسب، وإنما أيضا فيما تثيره من أسئلة تتعلق بالوضعية الإنسانية بوصفها مرتبطة بقيمة وجود الإنسان في العالم.
ويعتبر بومسهولي في دراسته المعنونة بـ"الأخلاق بين العقل والدين" أن التلازم الذي تقتضيه علاقة التضايف ما بين الأخلاق والعقل من جهة أولى، وما بين الأخلاق والدين من جهة ثانية، وما بين العقل والدين من جهة ثالثة، يكشف عن حقيقة الكائن الإنساني باعتباره موجودا إشكاليا، تقترن تجربته داخل الوجود بما تطرحه من إشكاليات ليست أنطولوجية (وجودية) فحسب، بل هي أيضا إيطيقية (أخلاقية).
ويستنتج الباحث أنه إذا كان الكائن الإنساني لا يغدو عقلانيا إلا من خلال التأسيس الأنطولوجي لتجربته في العالم، فإن هذا التأسيس يظل مرتهنا بغايات تكشف عن استقلال إرادته الإنسانية الحرة، بل تكشف عن كونه كائن أخلاقي، وليس مجرد كائن طبيعي، ما دام يسعى نحو تلك الغايات فيما يمكن أن يسمى بالسعي نحو الكماليات الأخلاقية.
وخلص بومسهولي في دراسته إلى أن تأسيس الأخلاق على العقل هو إقرار بالمبادئ الكونية التي تضمن للوجود الإنساني حياة مشتركة قائمة على تبادل التقدير والاحترام، كما أنه في استناد الدين على الأخلاق والعقل معا، انبثاق لمبدأ الخصوصية القائم على المسؤولية الذاتية التي توقظ الضمير الحي للكائن البشري.
وتوزعت دراسات وأبحاث المشاركين في ملف مجلة "الإحياء" على مساهمات تطرقت إلى "العدل في أصول المذهب المالكي" للباحث المغربي عبد الله عبد المؤمن، ودراسة "النظام العام للحرية الفردية في الإسلام" للباحث طه لحميداني، وبحث موسوم بعنوان "قيمة الوعي بالمستقبل في فقه النهضة" للدكتور مسفر القحطاني أستاذ أصول الفقه بالسعودية، وأيضا بحث "يوتوبيا الاتصال وسؤال القيم" للباحث هشام المكي، ثم بحث "قيم التضامن بين الشعوب الإسلامية" للباحث محمد بلعربي حواش من كلية بني ملال بالمغرب.