فى طريقى إلى مطار القاهرة متوجها إلى تركيا،
تزاحمت أفكار ومفارقات عديدة فى ذهنى حول هذا البلد. وقبل السفر بأيام
وكعادتها تبدع تركيا فى إحراج الأنظمة العربية دون قصد وتقذفها بقراراتها
الجريئة إلى جحور الخزى والعار. وكان آخرها قرار طرد السفير الإسرائيلى من
أنقرة، على خلفية التقرير "الأعمى" للأمم المتحدة حول حادث أسطول الحرية.
أسافر إلى تركيا بدعوة من المؤسسة العامة للصحافة والنشر التركية لعقد
لقاءات مع كبار المسئولين وزيارة كبرى المؤسسات الإعلامية فى تركيا. ولا
أخفى حالة الإثارة التى أعيشها لرؤية هذا المجتمع الذى يعيش وسط حزمة من
التناقضات المتجانسة والفروق المتناغمة على أرض وطن واحد. أقوى المفارقات
أن المجتمع التركى غالبيته مسلمة (99% من السكان) يحكمهم نظام علمانى
ويديره حزب ذو خلفية إسلامية.
وجاءت الأحداث الأخيرة لتضيف مزيداً من الأهمية والإثارة على زيارتى
لتركيا. وتتزامن مع فترة فارقة فى تاريخ منطقتنا العربية والشرق أوسطية فى
ظل ما تموج به من صراعات وثورات تسعى خلالها تركيا فى لهفة للعب دور
الوسيط. يساعدها على ذلك تراجع أدوار لاعبين رئيسين بالمنطقة أبرزهم مصر
والسعودية وإيران.
كما يحظى الدور التركى بترحيب منقطع النظير من غالبية الأنظمة العربية
وخاصة الخليجية منها لتحقيق نوع من توازن القوى فى مواجهة المارد الإيرانى.
أيضا تمر تركيا بمرحلة حساسة فى علاقاتها مع دول محورية بالمنطقة. أبرزها
سوريا، حيث تشهد شوارعها وميادينها ثورة شعبية عارمة تطالب بالإطاحة
بالرئيس بشار، وزادت من سخونة الأحداث إدانة أنقرة لما أسمته العنف المفرط
ضد المدنيين. وفى تل أبيب يزداد الانزعاج على خلفية قرار أنقرة الأخير بطرد
السفير الإسرائيلى وتخفيض التمثيل الدبلوماسى إلى مستوى السكرتير الثانى.
هذا القرار الذى أشتاق غالبية المصريين لمثله من القاهرة حفظا لكرامة
شهدائنا ممن قتلتهم القوات الإسرائيلية على الحدود.
التطورات الأخيرة ربما تهدد نظرية "تصفير المشكلات" التى يقودها باحترافية
وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو مايسترو الدبلوماسية التركية. ويكمن الهدف
من هذه النظرية فى إنهاء أو تهدئة كافة المشكلات مع دول الجوار وتحويل نقاط
الخلاف معها إلى مجالات للتعاون المشترك. ونجحت هذه النظرية إلى درجة
بعيدة فى التعامل مع مشكلة الأكراد بينها ودول العراق وسوريا وإيران.
بالتأكيد أن زيارة تركيا وإجراء حوارات ولقاءات من قلب الشوارع والميادين
وكبار المسئولين سيكون لها اثر مختلف. فتركيا هى الدولة الإسلامية الوحيدة
التى ينص دستورها على علمانية الدولة. وهناك نصوص صارمة فى الدستور التركى
تحمى وتحفظ علمانية الدولة التى أسسها مصطفى كمال أتاتورك عام 1923. وجاء
حزب العدالة والتنمية ذو الخلفية الإسلامية ليقلب الموازين ويثبت أن
الإسلاميين المعتدلين لديهم القدرة ليس فقط على إدارة دفة السلطة ولكن أيضا
التميز وإبهار العالم.
والمفارقة أن من يحكم ويقود الحكومة بنجاح واقتدار فى هذا المناخ العلمانى
وبعد انتخابات ديمقراطية شهد العالم بنزاهتها هو رئيس حزب العدالة والتنمية
رجب طيب أردوجان، رئيس الوزراء، وربما لا يعلم البعض أن أردوجان كان عضوا
بالطريقة النقشبندية الصوفية فى تركيا، ويمثل حزبه امتدادا لأحزاب الرفاه
والسعادة والفضيلة التى كانت مصبوغة بصبغة إسلامية.
لا تزال أسئلة كثيرة تراودنى حول هذا البلد الذى شهد وأد الخلافة الإسلامية
وإلغاء المدارس الدينية وإلغاء المادة التى تنص على أن الإسلام دين
الدولة، كيف يتعايش المسلمون فى ظل هذه الأجواء العلمانية الموسومة دائما
بالكفر والإلحاد؟.. كيف استطاع هذا البلد لفت أنظار العالم خلال فترة قصيرة
منذ تولى حزب أردوجان للسلطة فى عام 2002.. كيف استطاع هذا الحزب (إسلامى
الهوية) فرض نجاحه على المجتمع التركى ضد العلمانية العتيه؟.. وكيف أصبح
مثار إعجاب لجميع بلدان المنطقة بكافة طوائفهم وتوجهاتهم عدا بعض
الإسلاميين ممن ينتقدون أردوجان لعدم تطبيق الشريعة؟.. وهل كانت العلمانية
فى صالح تركيا أم ضدها؟.. وما هى الأولويات التى تضعها حكومة أردوجان وصولا
إلى حالة "النموذج" الذى تسعى إليه بعض الأمم الشاردة مثل مصر وتونس؟..
كلها أسئلة سأحاول البحث عن إجابات لها فى رحلتى إلى تركيا.