الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

شاطر|

الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل
معلومات العضو
مشارك في المسابقة

مطور خارق

مطور خارق

معلومات إضافية
ذكر
الْمَشِارَكِات الْمَشِارَكِات : 488
الْعُمْر الْعُمْر : 29
 الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية 012
 الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية Empty
مُساهمةموضوع: الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية  الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية Icon_minitimeالسبت ديسمبر 10, 2011 6:17 pm

بسم الله الرحمن الرحيم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية

[center]ساقَ
القرآنُ الكريم عديدًا مِن المُثل الرائدة في مجالِ الشجاعة الأدبيَّة،
تُبيِّن لنا كيف أنَّ أصحابَها قد بَلَغوا من هذا الخُلُق الرفيع أسمى
منازلِه، دون أن يعبؤوا بما يمكن أن يحلَّ بهم مِن جراء الاعتصامِ بهذا
الخُلُق الكريم، فعَلَى رأس هذه المُثل رُسل الله جميعًا في مجاهدتِهم
أعداء الله بدعوةِ الحقِّ كائنًا ما يكون، وما يُمكن أن يلقوا في سبيلِه،
وعلى رأسهم جميعًا في ذلك مُعلِّم الإنسانية الأعظم محمَّدٌ - صلَّى الله
عليه وسلم - ثُم إنَّ له أعظمَ درجات هذا الخُلُق جلالاً وروعةً، وذلك حين
كان يُعاتبه ربُّه في أمرٍ مِن الأمور عتابًا شديدًا، يبين لنا فيه أنه لم
يكُن ينبغي لمن هو على مثل منزلتِه - صلَّى الله عليه وسلَّم - كمالاً
وسموًّا أن يلمَّ بمِثل هذه الأمور، فلا يَكتُم مثلَ هذا العتاب، الذي كان
يبلُغ مِن شدته أحيانًا أن تفيض عيناه مِن الدمع حزنًا، مع ما قد يترتَّب
على إعلانه مِن ارتدادِ بعضِ مَن دَخلوا في دِين الله، أو مِن مَرض بعضِ
القلوب، ورمْيها إيَّاه بما لا يَنبغي أن يكون، ومع أنَّ طبيعة النفس
البشريَّة تتقاضاها في العادةِ أن تظهرَ بأحسنِ مظاهرِ الكمال، وتستر ولو
أدْنَى مظهرٍ مِن مظاهر النقص، أو ما يشبه أن يُحمل على أنَّه نقصٌ، بل كان
يُعلِنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - صريحًا واضحًا بذات النصِّ الحرفي
الذي ينزل الله به في قرآنه الكريم، بالغة شِدَّة ذلك العتاب صرامتَه على
النفس البشرية ما بلغَتْ، ومثيرة في القلوب المريضة ما تُثير من مرَض.


ألاَ
ترَى إلى هذا العِتاب الشديد في قَبول الفداء مِن أسرى بدرٍ، والذي أجلسه -
صلَّى الله عليه وسلَّم - باكي العين، محزون القلْب؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿
مَا
كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ
﴾ [الأنفال: 67][1]
ألاَ ترى إلى هذا العتاب عندما وقَف رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
على عمِّه حمزة بن عبدالمطَّلب، عندما قُتِل في أُحد، ومُثِّلَ به، وقدْ
جدعوا أنفَه وأُذنه، وقطعوا مذاكيرَه، وبقَرُوا بطنَه، وأخذت هندُ بنت عتبة
كبدَه فمضغتها ولاكَتْها ثم قذفتْ بها، فلمَّا نظَر رسولُ الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم - إليه كأنَّه لم يرَ شيئًا أوجعَ لقلبه منه، فقال:
((رحمةُ الله عليك، إنَّك كنتَ ما علمتُ وصولاً للرحم، فعَّالاً للخيرات،
ولولا حزنُ مَن بعدك عليك، لسرَّني أن أدعَكَ حتى تُحشَرَ مِن أجواف شتَّى،
أما والله لئن أظْفَرني الله تعالى بهم، لأمثلنَّ بسَبعين منهم مكانَك))،
فأنزل الله تعالى قوله: ﴿
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126][2] فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((بل نصبر))، وأمْسكَ عمَّا أراد وكفَّر عن يمينه!


بل
انظر إلى آيات سورةِ الأحزاب وما فيها مِن العتاب الشديد والصَّرامة
الأشد، والتي تجسَّدت في آيات كثيرةٍ مِن السورة، منها قوله تعالى: ﴿
وَمَا
جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ
بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيل
﴾ [الأحزاب: 4][3]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ
أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا
اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ

﴾ [الأحزاب: 37]؛ لأنَّ الإسلامَ ليس مجموعةَ إرشادات ومواعِظ، ولا مجموعة
آدابٍ وأخلاق، ولا مجموعة شَرائع وقوانين، ولا مجموعة أوضاع وتقاليد
فحسبُ، إنَّه يشتمل على هذا كلِّه، ولكن هذا كله ليس هو الإسلام، إنَّما
الإسلام هو الاستسلام، الاستسلام لمشيئةِ الله وقدَره، والاستعداد ابتداءً
لطاعةِ أمره ونهيه، ولاتِّباع المنهج الذي يُقرِّره دون التلفُّت إلى أي
تَوجِيه آخَر، ودون اعتمادٍ كذلك على سواه، وهذا الشعورُ ابتداءً بأنَّ
البشر في هذه الأرض خاضِعون للناموس الإلهي الواحِد الذي يُصرِّفهم ويصرِّف
الأرض، كما يصرِّف الكواكب والأفلاك، ويدبِّر أمر الوجود كله ما خفِي منه
وما ظهَر، وما غاب منه وما حضَر، وما تُدركه منه العقولُ وما يقصُر عنه
إدراكُ البشَر، وهو اليقين بأنَّهم ليس لهم مِن الأمْر شيءٌ إلا اتِّباع ما
يأمُرُهم به الله، والانتهاء عمَّا ينهاهم عنه، هذه هي القاعِدة، ثم تقوم
عليها الشرائِع والقوانين، والتقاليد والأوْضاع، والآداب والأخلاق، بوصفها
الترجمةَ العمليةَ لمقتضيات العقيدةِ المستكنة في الضَّمير، والآثار
الواقعيَّة لاستسلامِ النفس البشريَّة لله، والسَّير على منهجِه في الحياة.


إنَّ
الإسلامَ عقيدةٌ تَنبثِق منها شريعة، يقوم على هذه الشريعة نِظام، وهذه
الثلاثة مجتمعة مترابِطة متفاعِلة هي الإسلام، ومِن ثَمَّ كان التوجيهُ
الأول في السورة التي تتولَّى تنظيمَ الحياة الاجتماعيَّة للمسلمين
بتشريعاتٍ مختلفة، هو التوجيهُ إلى تقْوَى الله: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ
﴾ [الأحزاب: 1]... آيات عديدة في منتهى الروعة والجمال والبهاء، مع شِدَّة
العتاب الموجَّه فيها للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومع شدِّتها فهي
خيرُ دليل على أنه لا مجالَ للامتيازات في دعوةِ الحق، بسببِ الحسَب
والنسب، أو المال والجاه، بل وحتَّى النبوَّة، ومِن هنا فهي دليل واضح
وبيِّن وأكيد على نبوَّة هذا النبيِّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -
فلو لم يكُن نبيًّا، لكتَم هذه الآيات وغيرها، ولم يخبرْ بها أحدًا مِن
أتباعه؛ لما فيها مِن عتاب له - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولو كان كاتمًا
شيئًا مِن الوحي، لكتمَها وغيرها.


بل
ألاَ تَرى إلى ما هو أشدُّ مِن ذلك وأقسى على النفس البشرية مِن عتابه -
صلَّى الله عليه وسلَّم - في شأنِ إعراضه عن المؤمِن الأعمى الراغبِ في
العِلم، على حين أقبل على أهل الوجاهة والاستغناء عن دِينِ الله مِن
الكافرين؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿
عَبَسَ
وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ
يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى *
وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ
تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ
﴾ [عبس: 1 - 11][4]،
هنا يجيءُ العتاب مِن الله العليِّ الأعلى لنبيِّه الكريم صاحِب الخُلُق
العظيم، في أسلوبٍ عنيف وشديد، وللمَرَّة الوحيدة في القرآنِ كله يُقال
للرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: كَلاَّ... وهي كلمة ردْعٍ وزجْر في
الخطاب؛ ذلك لأنَّه الأمرُ العظيم الذي يقوم عليه هذا الدِّين، والأسلوبُ
الذي تولَّى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوبٌ فريد، لا يُمكن ترجمته في
لُغة الكتابة البشريَّة، فللُّغة قُيودٌ وأوضاع وتقاليدُ، تغصُّ مِن حَرارة
هذه الموحيات في صورتِها الحية المباشِرة، ويَنفرِد الأسلوبُ القرآني
بالقُدرة على عَرْضها في هذه الصورةِ الرائعة في لمساتٍ سريعة، وفي عباراتٍ
متقطعة، وفي تعبيراتٍ كأنَّها انفعالات، ونبرات وسِمات ولَمَحات حيَّة،
تستشعرها وكأنَّك تعيش مع الحدَث، ومع ذلك يظهرها النبي - صلَّى الله عليه
وسلَّم - ويُبديها ولم يُخفِها متسمًا بذلك نبوَّته ورسالته، ملحقًا بهما
شجاعتَه الأدبيَّة في عَرْض كلِّ ما يُوحَى إليه من ربِّه حتى ولو كان
الِعتاب، بالغة شدة ذلك العتاب ما بلغَتْ.


إنَّ
هذا التوجيهَ الذي نزل بشأنِ هذا الحادث هو أمرٌ عظيم جدًّا، أعظم بكثيرٍ
ممَّا يبدو لأوَّل وهلة، هذا التوجيه يرِد هكذا تعقيبًا على حادثٍ فردي،
على طريقةِ القرآن الإلهيَّة في اتِّخاذ الحادثِ المفرد والمناسبةِ
المحدودة فرصةً لتقريرِ الحقيقة المطلَقة والمنهج المطَّرد، وإلاَّ فإنَّ
الحقيقةَ التي استهدف هذا التوجيه تقريرَها هي الإسلام في صميمه، وهي
الحقيقة التي أراد الإسلامُ وكلُّ رسالة سماوية قبلَه غرسَها في الأرض، هذه
الحقيقة ليستْ هي مجرد: كيف يتمُّ التعامُلُ مع فرْدٍ مِن الرعيَّة؟ كما
هو المعنَى القريب للحادِثِ وللتعقيب، إنَّما هي أبعدُ وأعظمُ مِن هذا
جدًّا.


إنها: كيف يَزِن الناسُ كلَّ أمور الحياة؟ ومِن أين يستمدُّون القِيَم التي يَزِنُون بها ويُقدِّرون؟
والحقيقة التي استهدفَ هذا التوجيهُ إقرارَها هي: أن يستمدَّ الناسُ في
الأرض قِيمَهم وموازينَهم من اعتباراتٍ سماويَّة إلهيَّة بحتة، آتيةٍ لهم
من السماء، غير مقيَّدة بملابسات الأرض، ولا بمواضعات الحياة، ولا نابعة
مِن التصوُّرات المقيَّدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات، وهو أمرٌ عظيم
جدًّا، كما أنَّه أمرٌ عسيرٌ جدًّا؛ عسير أن يَعيشَ الناس في الأرضِ بقِيَم
وموازين آتية مِن السماء، مُطلَقة مِن اعتبارات الأرض، متحرِّرة مِن ضغط
هذه الاعتبارات، نُدرك عظمَةَ هذا الأمر وعسرَه حين نُدرِك ضخامةَ الواقع
البشري، وثقله على المشاعِر، وضغطه على النُّفوس، وصعوبة التخلِّي عن
الملابساتِ والضغوط الناشِئة مِن الحياة الواقعية للناس، المنبثِقة من
أحوالِ معاشهم، وارتباطات حياتِهم، وموروثات بيئتهم، ورواسبِ تاريخهم،
وسائر الظروف الأخرى التي تَشدُّهم إلى الأرض شدًّا، وتَزيد مِن ضغطِ
موازينها، وقِيمها وتصوُّراتها على النفوس، كذلك نُدركُ عظمةَ هذا الأمر
وعُسرَه حين ندرك أنَّ نفْس محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدِ احتاجت كي
تبلغَه إلى هذا التوجيه من ربِّه، بل إلى هذا العتاب الشديد، الذي يبلُغ
حدَّ التعجب من تصرفه.


وإنَّه
ليكفي لتصوير عظمة أيِّ أمرٍ في هذا الوجود أن يُقال فيه: إنَّ نَفْسَ
محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد احتاجتْ كي تبلغَه إلى تنبيهٍ وتوجيهٍ،
وعتابٍ ولومٍ شديدٍ، أشد ما يكون فيه حين يكون نابعًا مِن خالق السموات
والأرض إلى نبيٍّ مرسَل، أو إلى ملك كريم، نعمْ يكفي هذا.


إنَّ
الميزانَ الذي أنزله الله للناسِ مع الرسل ليقوِّموا به القيم كلها هو
ميزان "إنَّ أكرمكم عندَ الله أتْقاكم"؛ لقول الله تعالى: ﴿
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا
﴾ [الأحزاب: 1]، هذه هي القِيمةُ الوحيدة التي يَرْجَح بها وزنُ الناس،
وهي قيمةٌ سماويَّة بحتة لا عَلاقة لها بمواضعاتِ الأرْض وملابساتها
إطلاقًا، ولكن الناس يعيشون في الأرضِ ويرتبطون فيما بينهم بارتباطاتٍ
شتَّى، كلها ذات وزن، وذات ثِقل، وذات جاذبيَّة في حياتِهم، وهم يتعاملون
بقِيَمٍ أخرى، فيها النسبُ، وفيها القوَّة، وفيها المال، تَتفاوت فيها
أوضاعُ الناس بعضهم لبعض، فيُصبح بعضُهم أرجحَ مِن بعض في موازين الأرْض،
ثم يَجيء الإسلامُ ليقول: إنَّ أكرمكم عندَ الله أتقاكم، فيضرب صفحًا عن
كلِّ تلك القِيَم الثقيلة الوزنِ في حياةِ الناس، العنيفة الضغْطِ على
مشاعِرِهم، الشديدة الجاذبيَّةِ إلى الأرض، ويبدل مِن هذا كله تلك القِيمة
الجديدة المستمدَّة مباشرةً مِن السماء، المعترَف بها وحدَها في ميزانِ
السماء، ثم يَجيءُ هذا الحادثُ لتقرير هذه القِيمة في مناسبةٍ واقعية
محدَّدة، وليقرر معها المبدأ الأساسي، وهو أنَّ الميزان ميزانُ السماء،
والقيمة قيمةُ السماء، وأنَّ على الأمة المسلمة أن تدَعَ كلَّ ما تعارَف
عليه الناسُ، وكلَّ ما ينبثق مِن علاقات الأرضِ مِن قِيم وتصوُّرات وموازين
واعتبارات؛ لتستمدَّ القِيم مِن السَّماء وحْدَها، وتزِنُها بميزانِ
السَّماء وحْدَه، وإن تعجبْ فعجبٌ موقِف محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -
في تملُّكه الشجاعةَ الأدبيَّة في إظهارِ ذلك العتاب من ربِّ الأرباب
خالِق الأرْض والسموات.


فعن
عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: أُنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أمِّ
مكتوم، أتَى إلى رسولِ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فجَعل
يقول: أرشدْني، قالت: وعندَ رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -
مِن عظماءِ قُريش، فجعَل النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -
يُعرِض عنه ويُقبل على الآخَر، ويقول: أترَى بما أقوله بأسًا؟ فيقول: لا،
ففي هذا أُنزلت عَبَسَ وَتَوَلَّى
[5].


وعن
ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: بينَا رسولُ الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - يُناجِي عُتبةَ بنَ ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن
عبدالمطَّلب، وكان يَتصدَّى لهم كثيرًا ويَحرِص عليهم أن يُؤمنوا، فأقبل
إليه رجلٌ أعمى يُقال له: عبدالله بن أمِّ مكتوم يَمشي وهو يناجيهم، فجعَل
عبدالله يستقرِئ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - آيةً مِن القرآن،
وقال: يا رسولَ الله، علِّمني مما علَّمَك الله، فأعْرَض عنه رسولُ الله -
صلَّى الله عليه وسلَّم - وعبَس في وجهه وتولَّى، وكَرِه كلامَه وأقبل على
الآخَرين، فلمَّا قضَى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نجواه وأخَذ
ينقلب إلى أهلِه، أمسك الله بعضَ بصره ثم خفَق برأسه ثم أنزل الله: ﴿
عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى
﴾ [عبس: 1 - 4]، فلمَّا نزَل فيه ما نزَل أكْرَمه رسولُ الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - وكلَّمه، وقال له النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ما
حاجتُك؟ هل تُريد من شيءٍ؟ وإذا ذهَب مِن عنده قال: هل لك حاجةٌ في شيء؟
وذلك لما أنْزَل الله تعالى: ﴿
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 5 - 7][6].


يَجيء
الرجلُ الأعْمى الفقير ورسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مشغولٌ
بأمر النَّفَر مِن سادة قريش، وهو يَدعوهم إلى الإسلام، ويرجُو بإسلامهم
خيرًا للإسلام في عسرتِه التي كان فيها بمكَّة، وهؤلاء النَّفر يَقِفون في
طريقه، وفي طريقِ الدعوة بمالهم، ويصدُّون عنها بجاهِهم وقوَّتهم، ويَحولون
بينه وبيْن الناس، ويَكيدون له كيدًا شديدًا، حتى كادوا أن يُجمِّدوا
الدعوةَ في مكة، أمَّا مَن هُم خارج مكةَ، فلم يكُن لهم أن يَقبلوا هذه
الدعوةَ الجديدة التي يقِف في طُرقِها أقربُ الناس إلى صاحبها.


أقول:
يَجيء هذا الرجلُ لرسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو مشغولٌ
بأمْر هؤلاء النفر، لا لنَفْسه ولا لمصلحته؛ ولكن لنشرِ الإسلام ومصلحةِ
المسلمين، فلو أسْلمَ هؤلاء الرجالُ لأُزيلت العقباتُ التي تقِف في طريق
نشْر الدعوة، ويُكرِّر ابن أم مكتوم قولَه على رسولِ الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - فيكره الرسولُ قطعَه لكلامه واهتمامه، فتَظهر الكراهية في
وجهِه الذي لا يَراه الرجلُ؛ لكونِه قد كفَّ بصره، فيعبس ويعرض عنه، ووسط
هذا الهول الذي يَبغيه الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِن إسلام هؤلاء
القوم الذي يُزلزل النفوس، والخوف الذي يَقْطَع القلوب، والرغبة العارِمة
في إسلامِ المارقين، وعبس الرسول عن ابن أمِّ مكتوم، ينزل القرآن يفيض
عتابًا للنبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على ما فَعَلَه مع المؤمن
الضرير، وهنا تتدخَّل السماء، تتدخل لتقول كلمة الفصل، ويجيء العتابُ مِن
الله العليِّ الكبير لنبيِّه الكريم صاحِب الخُلُق الكريم: ﴿
عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس: 1 - 4].


فمَن
هذا الذي يُعاتب اللهُ فيه النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم؟ هَلْ كان له
وضعٌ وثقل بيْن القبائل العربيَّة عامَّةً وأهْلِ قريش خاصَّة؟ أكان ممَّن
صوته يُدوِّي في سوق عكاظ، وهو يُلقِي مطولتَه في البطولة والدِّفاع عن
القبيلة؟ فتتلقفها آذانُ العرب وتُردِّدها ألسنتهم؟ أهو ذلك الفارس
المغوار، والبطَل الذي لا يُشقُّ له غبار، والذي كان يخوض المعاركَ ويجندل
الفرسان، ويَتغنَّى ببطولتِه الشعراءُ؟ أم كان مِن أولئك الرِّجال الأفذاذ
ممَّن لهم الرأي الحصيف، والكلمة النافذة في دارِ الندوة، مُلتقَى شيوخ
العرَب وحكَّامها؟!


إنَّ
ابنَ أمِّ مكتوم - رضي الله عنه - لم يكنْ واحدًا مِن أولئك ولا مِن
هؤلاء، ولم تسمعْ به الدنيا قبلَ الإسلام، ولم يكُنْ له صوتٌ ولا حديث
فيها، بل كان رجلاً مِن رِجالات مكة يعيش لنفسِه ومع نفسِه، ولا يُعرف له
اسمٌ ولا رسمٌ على التأكيد، ولكنَّه فردٌ مسلم أعزَّه الله بالإسلام؛ يقول
الثوري: فكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعدَ ذلك العتاب إذا رَأى
ابن أمِّ مكتوم يبسُط له رداءَه، ويقول: ((مرحبًا بِمَن عاتبني فيه ربي))،
ويقول له: هلْ مِن حاجة؟ وصَدَق الذي قال: لو كان محمد كاتمًا شيئًا مِن
القرآن، لكتَم صدرَ سورة عبس، ولكن حاشا لمنصب النبوَّة الجليل، وحاشا
لأرفع درجاتِ الشجاعة الأدبيَّة إزاءَ العواطف والنزعات البشريَّة أن يكتمَ
شيئًا مما أنزله الله إليه.


ومن السياق الكريم يتَّضح ما يلي:


آياتُ العتاب المذكورة في القرآن كلِّه، خيرُ دليلٍ على صِدق نبوَّة محمد -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فلو لم يكُنْ صادقًا، لأخفَى ذلك العتابَ مِن
ربه.



مدَى صِدق النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبلوغه مِن خُلُق الشجاعة
الأدبيَّة الرفيع في إظهارِ العتاب أعظمَ درجات هذا الخُلُق جلالاً وروعةً،
وأسْمَى منازل دَرجاته، دون أن يعبأَ بما يُمكن أن يحلَّ به من
جراء الاعتصام بهذا الخُلُق الكريم، مع ما قد يترتَّب على إعلانِه مِن مرَض بعضِ القلوب، ورمْيها إيَّاه بما لا ينبغي.



التأكيد على أنَّ القرآن الكريم منزَّل مِن عند الله وليس مِن عندَ محمد -
صلَّى الله عليه وسلَّم - فلو كان مِن عندِ محمَّد، ما عاتَبَ نفْسَه وما
ساءَها أمامَ أصحابه وأتباعه، ولقصَّ عليهم مِن الآياتِ ما يُمجِّد
ويُجمِّل صورتَه، على أنَّ طبيعةَ النفس البشريَّة تتقاضاها في العادةِ أنْ
تظهَر بأحسنِ مظاهر الكمال، وتستر ولو أدْنَى مظهَر مِن مظاهِر النقص،
فقدْ كان يقرأ آياتِ العتاب صريحةً واضحةً بذات النصِّ الحرفي الذي ينزله
الله به، بالغة شِدَّة ذلك العتاب وصَرامته على النفس البشرية ما بلَغَتْ.



صدر الآيات دليلٌ واضح وأكيدٌ على بشريةِ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -
لا فَرْقَ بينه وبين البشَر سوى النبوة والرِّسالة ومدَى قربِه من ربِّ
العالمين؛ مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿
قُلْ
إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ
إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً
صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
﴾ [الكهف: 110][7]، فهو بشَر يَضحك ويَبْكي، يَفرَح ويترَح، يَعبس ويتولَّى، وذلك قوله تعالى: ﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى ﴾ [عبس: 1].



عدَم الإعراض عن المؤمنين الراغبين في العِلم مهما قلَّ شأنهم، وتقديمهم
على غيرِ المؤمنين مِن الكافرين مهما علا شأنُهم وارْتَفَع، وعدَم الإقبال
على أهل الوجاهة والاستغناء عن دِين الله مِن الكافرين.


اللوم والعِتاب على مَن ظنَّ به التعنُّتَ مِن أهل العِلم والفتيا، وتقاعسهم عن إجابةِ السائلين عن أمورِ الدِّين مهما كان شأنُهم.


قَبول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - العتاب مِن ربِّه بانشراح صدْر،
وسَعَة نفْس، وإيمان أشد وأعمق، فكان كلَّما قابل ابنَ أمِّ مكتوم يبسُط
له رِداءه ويخاطبه مداعبًا ومرحِّبًا بقوله: ((مرحبًا بمَن عاتبني فيه
ربِّي؛ هل مِن حاجة؟)) صلَّى الله عليه وسلَّم.



ضرورة السؤال عمَّا يلزم مِن أمورِ الدِّين وما أَشكل عليه بما لم يفهمْه
الإنسان؛ لأنَّ طلبَ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ ومسلمة، وقد اختلف الناسُ
في ذلك، فقال الفقهاء: هو عِلم الفِقه؛ إذ به يُعرَف الحلال من الحرام،
وقال المحدِّثون: هو علم الكتاب والسُّنة، وقال آخرون: هو كلُّ العلوم،
وذلك قول الرجل: ((يا رسولَ الله، عَلِّمْني ممَّا علَّمك الله)).



علَى طالبِ العلم أن يأتيَ هو إلى طلبِ العلم، لا أن يَنتظر مجيئَه هو
إليه، بل يَنبغي عليه السعيُ إلى طلبِه في أيِّ مكانٍ، وبأيِّ وسيلةٍ
مشروعه، وذلك قول عائشة - رضي الله عنها -: فجعَل عبدُالله يستقرئ النبيَّ
آيةً مِن القرآن، وذلك قولُ الله تعالى: ﴿
أَن جَاءهُ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى ﴾.



لا عُذرَ لطالبِ العِلم كائنًا ما يكون في طلبِ العلم الشرعي، حتى ولو
بلغتْ شِدَّة ذلك العُذر مبلغًا إلى حدِّ العمَى، وذلك قول الله تعالى: ﴿
أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى ﴾.



هداية البشَر مِن الله ربِّ العالمين، وما على الداعيةِ إلاَّ أن يدعو،
فالهُدى والضلال بيدِ الله - عزَّ وجلَّ - والأمْرُ فيهما إلى الله وحْدَه؛
مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿
إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾ [القصص: 56][8]، وذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ﴾ [عبس: 3].


الذِّكرى دائمًا وأبدًا ما تنفَع المؤمنين، والتذكير هو وظيفةُ الرُّسل؛ لذا كان التوجيهُ الكريم مِن الله تعالى في قوله: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]؛ مصداقًا لقولِ الله تعالى: ﴿ أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [عبس: 4].


شِدَّة انهماكِ أهلِ الباطلِ في باطلهم، وأهْلِ الغيِّ في غَيِّهم،
ومبالغتهم في الإعراضِ عن الحقِّ، حسبما يُفيد تعبيرُه تعالى عن صَنيعهم
ذلك بالاستغناء والإباء، وهو أشدُّ الرفض، وذلك قوله تعالى: ﴿
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾ [عبس: 5].


جَزاء مَن يَخشى الله ويتقيه ويَسعى إليه الاستبشار بنِعمة الله عليه يوم القيامة؛ مصداقًا لقوله تَعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى ﴾ [عبس: 8 - 9]، فمصيره قول الله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
﴾ [عبس: 38 - 39]، في مقابلِ المستغني عن دِينِ الله - عزَّ وجلَّ - يكون
جزاؤه الاعتبار بما سيحلُّ به يومَ القيامة؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى ﴾ [عبس: 5]، فمصيره قول الله تعالى: ﴿ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ [عبس: 40 - 41].



ضَرَب الله الأمثال، وقصَّ القصصَ في القرآن الكريم؛ إبرازًا للمعقولِ في
صورةِ المحسوس، وتجسيدًا للمعنوي في صورةِ المادي، وعِبرة وعِظة للآخرين،
وذلك مِن لُطف الله بنا وعظيم رحْمَتِه، بل وميَّز لنا كلَّ شيء ووضَّحه
وبيَّنه أكْمَلَ تمييز، وأتم توضيح؛ ليَهلِكَ مَن هلَكَ عن بيِّنة، ويَحيا
مَن حيَّ عن بيِّنة.








[1] سورة الأنفال، مدنية، ترتيب نزولها 88، عدد آياتها 75، عدد كلماتها 1243، عدد حروفها 5299.

[2] سورة النحل، مكية، ترتيب نزولها 70، عدد آياتها 128، عدد كلماتها 1845، عدد حروفها 7642.

[3] سورة الأحزاب، مدنية، ترتيب نزولها 90، عدد آياتها 73، عدد كلماتها 1303، عدد حروفها 5618.

[4] سورة عبس، مكية، ترتيب نزولها 24، عدد آياتها 42، عدد كلماتها 133، عدد حروفها 538.

[5] روته عائشة - رضي الله عنها - المحدِّث: الوادعي، المصدر: أحاديث مُعلَّة، رقم 468.

[6] الراوي: عبدالله بن عباس، المحدِّث: ابن كثير، المصدر: تفسير القرآن، رقم 8/343.

[7] سورة الكهف، مكية، ترتيب نزولها 69، عدد آياتها 110، عدد كلماتها 1583، عدد حروفها 6425.

[8] سورة القصص، مكية، ترتيب نزولها 49، عدد آياتها 88، عدد كلماتها 1441، عدد حروفها 5791.




دمتم برعاية الرحمن وحفظه
[/center]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الشجاعة الأدبية لرسول الإنسانية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
شركة تطوير ويب :: المنتديات العامه ::   :: قسم الدين الاسلامي الحنيف-